الربيع العربي والانفلات الأخلاقي والمهني للإعلام

tahrir-handy[1]

بعد مرور أكثر من سنتين على الثورات العربية نلاحظ فوضى في الفضاء الإعلامي في دول الربيع العربي وأن الوضع لم يتحسن كما كان يتمناه الكثيرون. فنلاحظ الانفلات الأخلاقي في الممارسة الإعلامية حيث النيل من الآخر بأي طريقة ووسيلة انطلاقا من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فانتشرت ظاهرة القذف والتجريح والتشهير واختراق الحياة الخاصة للشخصيات العامة والوصول إلى نيل من شخصية الرئيس بحق أو بدون حق. وهكذا انقسمت المنظومة الإعلامية إلى قسمين، القسم الأول يؤيد الجماعة الجديدة التي جاءت إلى سدة الحكم بحق أو بغير حق والفوج الثاني شغله الشاغل هو النيل من الحكومة الجديدة بكل الطرق والوسائل وبأخلاق وبدون أخلاق وبمعايير مهنية وبدونها. فأصبحنا نلاحظ تجاوزات بالجملة في حق حرية الكلمة والموضوعية والنزاهة والحياد والحرفية والمهنية. فأصبحت المؤسسات الإعلامية تركز على ما يخدم أجندتها وتتجاهل الرأي الآخر وكل ما يناقض أطروحاتها وكأن الأمر يتعلق بقضايا مختلفة وليس نفس القضية، حيث أننا نلاحظ تقارير وأخبارا متضاربة ومتناقضة حول نفس الموضوع.

       قبل الثورات العربية كانت المنظومة الإعلامية في معظم الدول العربية تعاني من سيطرة السلطة عليها فكانت ضحية قيود وضغوط تنظيمية وقانونية وتشريعية. فالإعلام سواء كان حكوميا، رسميا أو خاصا كان يدور في فلك الحاكم وحاشيته وهذا ما يعني فقدان المصداقية وغياب صحافة الاستقصاء والابتعاد عن الجماهير ومطالبها ومشاكلها. فالإعلام الليبي في عهد القذافي على سبيل المثال كان يقدم العقيد على أنه أحسن قائد في العالم وأنه يتحلى بالحكمة والذكاء والبصيرة ما جعل من ليبيا جماهيرية عظمى وبلد عظيم وكبير. كما كان يقدم هذا الإعلام الشعب الليبي على أنه شعب متمسك بقائد الثورة وراض عن مستوى معيشته وتطور وازدهار بلاده. كان الإعلام الليبي يقدم ليبيا على أنها آية في الكمال والتميز والقوة والعظمة وأن الخطط التنموية وسياسة الدولة الداخلية والخارجية متميزة وناجحة. وأن القذافي هو محبوب الجماهير العربية قبل الليبية. كما حققت ليبيا حسب إعلام القذافي إنجازات جبارة في التنمية والتطور والازدهار بالمقارنة مع ما كانت عليه في عهد الملكية ومقارنة بدول أخرى في العالم والقارة السمراء والوطن العربي. استمر الوهم لمدة أربعين سنة واستمر التضليل والتلاعب والدعاية والكذب إلى أن جاءت ساعة الحقيقة وجاء زحف الجماهير وجاءت الثورة الشعبية لتنجلي الحقيقة وينكشف المستور وتظهر الأمور على حقيقتها.

       واقع المنظومة الإعلامية في تونس ومصر واليمن لم يكن أحسن حال عن نظيره في ليبيا وهذا ما حرم المجتمع في هذه الدول من مؤسسة إستراتيجية كان بإمكانها أن تراقب السلطة وتحارب الفساد وتكشف العيوب والأخطاء والتجاوزات. على عكس كل هذا كانت وسائل الإعلام في هذه الدول تتفنن في المدح والتسبيح والتهليل وفي تكريس الفساد وإهدار المال العام. فالعلاقة بين السلطة ووسائل الإعلام لم تكن سليمة وصحية كما أنها لم تكن واقعية وطبيعية مع الشعب. وهذا يعتبر خللا كبيرا في أبجديات الديمقراطية والتنمية المستدامة. بظهور الثورات العربية ورياح التغيير وهروب الحكام الفاسدين تفاءل الجميع خيرا بأن الربيع السياسي سيؤدي إلى ظهور ربيع إعلامي وسيوفر المناخ الأمثل لمنظومة إعلامية تختلف أجندتها عن أجندة المنظومة الإعلامية في عهد الرقابة وغياب حرية التعبير وحرية الصحافة والاستبداد والفساد.

       فالمشكل مع المجموعة الأولى هو أن رسالة الإعلام هي أكثر بكثير من الوقوف إلى جانب السلطة الحاكمة والدفاع عنها وتمجيدها وإنما الرسالة الحقيقية للمهنة الشريفة هي الوقوف على الأخطاء والتجاوزات ومراقبة السلطات الثلاث في أداء مسؤولياتها وواجباتها. فإذا عدنا إلى ثقافة المدح والتسبيح وتمجيد السلطة فهذا يعني أننا رجعنا إلى عهد القذافي، ومبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبد صالح، بمعنى أخر أن لا تغيير ولا صحافة استقصاء ولا رقابة ولا صحافة تخدم البلاد والعباد.فالثورات العربية جاءت لتغير وتبدل في آليات الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة السلطة بوسائل الإعلام. فالحكومات الحالية في دول الربيع العربي بحاجة إلى إعلام قوي وفعال يوجهها في الاتجاه السليم ويكون حلقة وصل بينها وبين شعوبها. الحكومات الحالية بحاجة إلى منظومة إعلامية تراقبها وتكشف عن أخطائها وتساعدها في إنجاز مهامها والتصدي للانتهازيين والفاسدين وكل من يحاول العبث بالمال العام ومصلحة الوطن.

       أما المجموعة الثانية فهي كذلك خرجت عن السكة وخرجت عن رسالتها لتدخل في ثقافة الإطاحة بالسلطة بكل الوسائل والطرق. فهي لا ترى في المجموعة الحاكمة إلا الأخطاء والسلبيات حيث أنها تمثل الخطر الكبير القادم والذي يعيد البلاد إلى الوراء.هذه المجموعة، مع الأسف الشديد، لا تؤمن بالديمقراطية ولا تجيد إتقان اللعبة الديمقراطية. فرغم وصول رؤساء وحكومات الربيع العربي إلى الحكم بطريقة ديمقراطية وبإرادة الشعب إلا أن جزء لا يستهان به من الإعلام يعمل في هذه الدول على الإطاحة بالنظام بدلا من البناء والتشييد وتأدية الرسالة الإعلامية بكل مهنية ومسئولية والتزام نحو الجمهور والمصلحة العامة. فهذا النوع من الإعلام حكم مسبقا على السلطة الجديدة ونعتها بكل النعوت والصفات ووضعها في خانة المتهم والخطر على المجتمع. وهنا نلاحظ عدم احترام أخلاقيات المهنية والمبادئ الأساسية للممارسة الإعلامية المسئولة والنزيهة والملتزمة.

       من جهة أخرى نلاحظ أن السلطة في دول الربيع العربي تجاوزت حدودها وتدخلت في شؤون المؤسسات الإعلامية والصحفيين بدون حق وبدون الرجوع إلى القضاء والقانون. فالعلاقة هنا يجب أن تكون واضحة تقوم على التشريعات والقوانين المعمول بها في البلد، وإذا كانت هناك تجاوزات فيجب أن تعالج في إطار القانون وفي المحاكم. وهنا نلاحظ حبس صحفيين والاعتداء على آخرين في كل دول الربيع العربي وبدون استثناء. ففي تونس على سبيل المثال تعرض 36 صحفي للحبس أو المضايقة بتهمة انتهاكات مختلفة وعديدة خلال شهر ديسمبر من العام الماضي وهذا يعني أن المنظومة الإعلامية في تونس مقبلة على انتكاسة ومرحلة صعبة سواء بالنسبة للإعلام الحكومي أو الخاص وهذا ما يقوّض ويعيق حركة الشفافية والديمقراطية وإنجاح العملية الانتقالية وتحقيق المطالب التي قامت الثورة من أجلها قبل سنتين. ما حدث ويحدث في تونس بشأن علاقة السلطة بالإعلام نجده في مصر وفي ليبيا وفي اليمن. فالنظام الذي لا يتعامل بمهنية وبحكمة وبالقانون مع الصحافة لا يكتب له النجاح في التواصل الديمقراطي مع الشعب والمجتمع المدني والأحزاب السياسية. وهنا نلاحظ أننا خرجنا عن أسس وقواعد الممارسة الديمقراطية ودخلنا في نفق تصفية الحسابات والنيل من الآخر بحق أو بدون حق. وهذا يعني بكل بساطة أننا عدنا إلى عهد ما قبل الربيع العربي وعهد تدخل السلطة في المنظومة الإعلامية والتعامل معها على أنها جزء من النظام وامتداد له. الفوضى الإعلامية التي تعيشها دول الربيع العربي لا تبشر بالخير حيث أن صحة الإعلام وعافيته وقوته هي المدخل الرئيسي للديمقراطية والشفافية والحكم الرشيد. فإذا سيطرت السلطة على الإعلام فهذا يعني القضاء على الحوار والنقاش والرأي والرأي الآخر والقضاء على الفضاء العام والمجتمع المدني ومبدأ التداول على السلطة.

بقلم: محمد قيراط

نشر في صحيفة الشرق القطرية

إرسال تعليق

تعليقك محل اهتمامنا وتقديرنا..
سسسسسس
سسسسسسسس
جميع الحقوق محفوظة | فهد فواز 2023 Premium By Raushan Design