الإعلان سيد الإعلام

 

اتصل بي مساعدُ رئيس تحرير صحيفة كنتُ أكتبُ فيها منذ زمن، وطلب مني مقالا آخر، غير المقال الذي أرسلتُه للجريدة، فاستغربتُ الأمر، وطلبت منه أن يبرر لي سبب ذلك، فقال:
إن رئيس مجلس إدارة الصحيفة هو الذي أوقف نشر المقال لسبب لا أعرفه.
لم أناقشه، فقد أعدتُ قراءة المقال المرفوض مرة أخرى، لأنني كنتُ أخشى أن أكون قد سهوتُ عن بعض الأخطاء واستعملت في هذه القراءة حاسة نقدية أخرى أضفتها إلى رصيد حواسي السابق، لعلي أتمكن من العثور على السبب الذي دفع رئيس التحرير لمنع نشر المقال، قرأته مرتين ولم أجد فيه ما يُبرر المنع قبل أن أُحادث رئيس مجلس الإدارة نفسه.
كان مقالتي تدور حول تزييف أغلفة شركات البضائع والأغذية في المطابع، وطباعة أي غلاف خارجي للشركات المشهورة بدون أخذ الإذن من الشركات الأساسية نفسها،صاحبة الغلاف وركّزتُ على أغلفة المواد المنظفة والصابون، وذكرتُ قصة نقلتُها عن أحد المقربين من شخص يملك معمل صابونٍ في بيته، حيث يصنع الصابون المحلي ثم يضعه في أغلفة صابونٍ من أصناف عالمية.
هذا الرجل ذهب إلى مطبعة من المطابع ليطبع فيها أغلفة لماركة صابون عالمية مشهورة ليضع فيها صابونه المحلي ويبيعه بأضعاف الثمن، فقال له صاحب المطبعة:
الأغلفة التي تطلبها مكلفة، وليست جاهزة، فما رأيك أن تأخذ أغلفة أخرى لماركة أخرى لا تقل عنها جودة؟!
فأخذ صاحب المصنع الأغلفة الموجودة بدلا من المطلوبة، ليضع بداخلها الصابون المزيف المصنوع في بيته!
وأشرت في المقال إلى آراء خبير كيميائي في هذا المجال، عندما قال: هذه كارثة كبيرة في كثير من الأوطان، فهذه البلوى تؤثر على أجساد أطفالنا، لأن الصابون المصنوع لا يخضع للمواصفات والمقاييس، فهو يثير الحساسية في الجلد، وقد يؤدي إلى أمراض خطيرة.
وطلبتُ بالهاتف رئيس مجلس إدارة الصحيفة لأعرف منه سبب منع المقال فقال:
نحن نعيش من إعلانات المطابع والشركات !
ولما أبديتُ استغرابي وقلت:
ولكنني لم أذكر أسماء المطابع والشركات قال:
لن أضحي بالميزانية من أجل عمودٍ صغير في جريدتي!
إذن .. فقد أصبحتْ وسائل إعلام كثيرة خاضعةً لشركات الدعاية والإعلان، وغدت السيطرة لها أيضا ، وانقلب دور الإعلان من داعمٍ ومُعززٍ لديموقراطية الإعلام وحريته، في مواجهة الاحتكارية والسلطوية وعمليات التأميم للإعلام الحر، وهذا هو جوهر رسالة الإعلان الحقيقية ؛ انقلب الإعلان إلى ديكتاتور جديد يفرض سطوته على كثير من وسائل الإعلام، ويوجهها في كثير من الأحيان.
وأعتقد بأن الإعلان سيتمكن عاجلا من تحويل حرف النون الأخير إلى حرف الميم، فيصبح تعريف الإعلام هو(الإعلان) بدلا من تعريفه القديم وهو : الإعلام رسالة سامية تهدف إلى الإخبار والتأثير والتغيير.
وفي ندوة حضرها عدد من الكتاب والمفكرين، عرض كثيرون تجاربهم مع مقالاتهم المرفوضة، فكانت النتائج أن أسباب رفض رؤساء التحرير لكثير من المقالات والدراسات لا تعود في الغالب إلى علاقتها بالفكر والسياسة، بل تعود إلى علاقتها بانتقاد الشركات والمؤسسات الكبيرة، فقد أشار بعض المشاركين في الندوة، إلى أن رئيس تحريرٍ رفض مقالا لكاتبٍ لأنه انتقد شركات الاتصالات والكهرباء والماء والبلديات وشركات المواصلات العامة، وهذه في الغالب هي الشركات التي تدفع مبالغ كبيرة للإعلانات، لدرجة أنني شاهدتُ أحد مسؤولي التسويق في إحدى الصحف وهو يقهقه فرحا ، وعندما أردتُ أن أشاركه فرحته التي كنت أظنها أسرية، فوجئت بأنه يقول:
لقد ظفرتُ بصفقة إعلان مدة ثلاثة أشهر على الصفحة الأولى للصحيفة، فمن يجلب الإعلان يحصل على ربع الثمن !! وكان هذا الإعلان لعلبة سجائر منذ سنواتٍ قبل أن تحظر الصحف نشر إعلانات السجائر!
وبلغ الأمر في بعض الصحف الفلسطينية أنها كانت منذ سنواتٍ تنشر إعلانات البراءة من العائلات والأسر، وما أزال أحفظ بعضها ، حيث أعلن فردٌ واحدٌ البراءةَ من أسرته كلها وذكر أسماءهم فردا فردا، مع التشويه ، نظير ثمن الإعلان.
وما أزال أذكر أن صحيفة فلسطينية نشرت أيضا إعلانا مُغرِّرا يدعو العمال الفلسطينيين إلى السفر إلى أوروبا لوجود فرص عملٍ عديدة لهم برواتب ومميزات مغرية ، ولما تابعتُ الإعلان، وجدتُ بأنه صادرٌ من جهةٍ مشبوهةٍ، في صورة مكتبٍ سياحي!
وقد نجحنا في إيقاف مسلسل الإعلانات التغريرية في كثير من الصحف الفلسطينية ، وكان ذلك بجهود كثير من المخلصين والواعين .
إعلان حديث جدا
ما أكثر إعلانات التغرير التي تبثها الفضائيات العربية، فمن شامبو قادرٍ على إعادة إنبات وإحياء بويصلات الشعر في رأس أكبر الرؤوس الجرداء وأوسعها مساحة، إلى كريمات تطمس بضربة قاضية كل التجاعيد على وجوه المعمرين والمعمرات، وصولا إلى معاجين الأسنان التي لا تحافظ على الأسنان فقط، بل تحول بينها وبين انتهاء صلاحيتها بفعل تقادم العمر، وتعمل على إنباتها من جديد!
ولم يتمكن الإعلان فقط من احتكار الإعلام، ويخلصه من آخر رسائله السامية، بل أنجب لنا أخطر أمراض العصر، وأكثرها شيوعا ، وهو البدانة والسمنة المفرطة ، فبعد أن أصبح العمود الفقري للإعلام هو من خيرات الإعلان، صارت معظم الفضائيات تبث ( الإدمان) بدلا من( الإعلام)، إدمان الأكل بواسطة شيفات المطابخ ، وإعلانات البضائع والأكلات والمطاعم والمقبلات، وتمكن الإعلان من تسخير التغرير بالجسد الأنثوي وامتهانه في لقطة إعلانية مربحة لتتمكن بها من غرز الإدمان في نفوس المشاهدين بامتهان جسد المرأة وتقطيعه إلى أجزاء مثيرة لشهود الإدمان.
ولم يكتفٍ ( الإعلام عبدُ الإعلان) من بث الإدمان، بل إنه أصبح مشرفا عاما على كل ما تبثه القنوات الفضائية، فالبرامج الثقافية والعلمية والفكرية وبرامج مصارعات الديكة الإعلامية ، كل هذه البرامج أصبحت غير قادرة على الظهور إلا إذا (تبنَّتها) شركات الإعلان ، وعلى كل برنامج أن يكون مكفولا في دار الحضانة الإعلانية ، ولم يعد مستغربا أن يكون البرنامج الثقافي والفكري الذي يود أن يصل إلى الجمهور تحت رعاية شركة (الحافظات الورقية، القادرة على امتصاص العرق والبول والإفرازات الأخرى) !!
أما عن آخر ما شاهدته في قناة فضائية، كنت أظنها تشذَ عما سبق من وصف، فهو الأغرب !! لأنه إعلان من طرازٍ جديد يُستخدم فيه مستحضر جديد منسوبٌ إلى الدين،فقد استوقفتني دعاية غريبة وجديدة، لأنها لا مثيل لها، فهي ليست دعاية طعامٍ أو لباس أو مسحوق، بل هي أسلوبٌ دعوي جديد آخذ في الانتشار هذه الأيام في الفضائيات! فالإعلان الغريب يبدأ" بمنظر أشجار في غابة كثيفة مظلمة، وفي وسط الغابةٍ تجري فتاة شابة جميلة، تلبس فستانا طويلا ، ويتدلى شعرها على كتفيها، وكانت تجرى وسط الغابة مذعورة خائفة ، ثم التقطتُ الكاميرا صورة أفعى تتدلى من شجرة بالقرب من الفتاة، فأيقنتُ بأن الدعاية هي لفيلم من أفلام السهرة، غير أنني فوجئت بأن الفتاة الهاربة من الأفعى تقف وتخرج من حالة الخوف والرعب وتبتسم هي تنظر إلى شجرة عالية، وفجأة تدلَّت من الشجرة قطعةُ قماشٍ بيضاء، سرعان ما لفَّت بها الشابةُ الجميلة شعرَها المتدلي أي ( تحجّبَت) ، ثم ظهرت كلمتان مكتوبتان وهما : الأمان والثقة !!
ملاحظة "هذه الدعاية كانت تتوسط مسلسلا يستعرضُ أشكال وأنواع الشَّعر المكشوف لممثلات جميلات !"
وأخيرا ، لم تتمكن معظم الدول من إلزام الفضائيات ( الطائرة) من الالتزام بالقواعد الرئيسة التي تلزم الإعلام لا الإعلان بأن يكون هو السيد ، ولا يجب أن تتعدى نسبة الإعلان في الإعلام عن الربع أو اقل بكثير، ويجب أن تخضع الإعلانات إلى القوانين والقواعد المنصوص عليها في القوانين واللوائح الإعلامية، وإذا لم توجد فمواثيق الشرف الإعلامية ، والتي تحظر التغرير بالناس، وبخاصة الأطفال ، وعدم (تسليع) البشر في الوسائل الإعلامية، لأنه أسلوبُ رخيص ! مع إلزام كل الشركات بالحصول على موافقة الجهات الرئيسة التي تتبعها.

 

بقلم: توفيق أبو شومر

إرسال تعليق

تعليقك محل اهتمامنا وتقديرنا..
سسسسسس
سسسسسسسس
جميع الحقوق محفوظة | فهد فواز 2023 Premium By Raushan Design